اولا : الهجرة قانون رباني في دعوة الحق
...
كثيرون هم الذين يعتبرون الهجرة حدث هام مرّ في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ويحصرون مكانة الهجرة في ما ترتب عليها من آثار بعدها في ظهور الاسلام وانتشار كلمته ، من غير الانتباه الى أن الهجرة ما يزال قانونا ربانيا ، الى يومنا هذا وهو مستمر مع مسيرة الصراع ( المدافعة ) بين الحق والباطل ..
أحب أن اضع الموضوع في نقاط حرصا على عدم الاسهاب الطويل ..
اولا : العمومية ، منهجية نافعة في تدبر القرآن الكريم :
لقد وضع علماء التفسير قاعدة هامة جدا لكل متدبر للقرآن الكريم ، وهي : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
يحسن بنا ونحن نقرأ القرآن الكريم ، أن نتدبر القرآن بمنهجية العمومية واستنباط القواعد والسنن العامّة ( بما يحتمله النص ) دائما اذ ما كان القرآن الكريم كتابا قصصيا يسرد احداثا ووقائع خاصة بزمان دون زمان ، ثم لا يستفاد منها شيئا بعد انتهاء الوقائع والاحداث والازمان ، ذلك أنه كتاب انزل الى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس - كل الناس - دائما من الظلمات الى النور بإذن ربهم ..
ونبي الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الانبياء وهو للناس كافة ، فكان لا بد ان يُبعث الى الناس كافة والى كل العصور والازمان بعد ذلك مما يؤكد مسألة بقاء صلاحية الكتاب الذي انزله الله تعالى اليه ، ليكون منهاجا عاما ودستوراصالحا ، لاصلاح البشرية ، والمنهاج والدستور (الناموس ) يقتضي ان تجتمع فيه منظومة كاملة وشاملة ، من القوانين والسنن العامة التي تصلح في امتداد الزمان واختلاف المكان دائما وابدا ..
ولقد تبيّن بالاستقراء في آيات الله تعالى ظهور قانون ( الهجرة ) والذي هو حسب الايات يتعرف بأنه :
اخراج الرسل واهل الحق من حملة دين الله تعالى من ديارهم التي يفتنون فيها ويُبتلون ( وهو قانون آخر سنفرد له مقالا آخر ان شاء الله تعالى ) ...
وانتقالهم الى ارض يستطيعون منها الانطلاق بحرية وقوة لتبليغ رسالة الله تعالى في الارض .. وهذا الانتقال من ارض الى ارض هو البداية الحقيقية لمرحلة القوة في المسيرة الربانية وبداية العد التنازلي لنهاية سلطان اهل الباطل وتمكين اهل الحق في الارض ..
ولا مشاحة في الاصطلاح ..
غير اننا في صدد تأصيل لهذا القانون العام ، وبيان ادلة ذلك من خلال الامثلة القرآنية وما فيه من آيات دالة على ذلك ..
الهجرة قانون وسط بين قانوني ( الفتنة ، والتمكين )
:
وبما أننا سنتحدث عن كلا القانونين في مقالين منفردين الا انه تجدر الاشارة السريعة والمهمة في هذا السياق الى ان قانون الهجرة هو قانون وسط بين قانوني الفتنة والتمكين في اطار ( سنة المدافعة وهو الصراع بين الحق والباطل ) ..
فتكون معادلة الخلافة الاسلامية العالمية في الارض ( في اطار سنة المدافعة ) يتحقق فيها ثلاثة قوانين أساسية :
1- الفتنة والابتلاء .
2-الهجرة وانتقال الحق من الضعف الى القوة .
3-التمكين وبناء الدولة التي تنطلق منها دعوة الحق لتحقيق خلافة الله تعالى في الأرض .
يمكن رسم هذا التصور العام من خلال :
الخلافة العالمية = الفتنة والابتلاء + الهجرة والانتقال + قيام دولة النواة ( من اهم عناصرها : - السعة وامكانية المراغمة )
.
﴿
قانون الهجرة : لفتات ونظرات قرآنية
﴾..
قال تعالى :
[size=18]﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة .. ﴾
صيغة الاية الكريمة عامة ، وهي وان نزلت تعقيبا على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه من مكة الى المدينة الا انها تقرر الفوائد العامة والمنتظرة من عملية الهجرة ..
( ومن يهاجر ) وفعل المضارعة يفيد دائما الاستمرارية ، اي ان فعل المهاجرة في سبيل الله مطلوب دائما لانتصار الحق وظهوره في الارض ...
وهذا الاسلوب القرآني يقرر طلبا ، كقوله تعالى :
الحج (آية:25):
﴿ ..... ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب اليم ﴾ - وهذا قانون خاص بالمسجد الحرام وهو مستمر ودائم -
الزخرف (آية:36):
﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ﴾ .. اي نتيجة ترك ذكر الله دائما ، تقييض
وآيات أخرى ...
وأما نتيجة هذا القانون وفوائده فهي عائدة الى انتصار الحق واظهار الحق ذاته في الارض ..
النتائج والفوائد من قانون الهجرة :
1- يجد في الأرض مراغما كثيرا ... أي مواضع ومجالات يستطيع من خلالها ارغام اعداء الحق من اهل الباطل والانتصار عليهم في جولات وجولات .
2- وسعة ... وهي امكانية الحركة والتحرك بعيدا عن التضييق والتقييد لحركة العاملين لدين الله تعالى ولا شك بأن هذه السعة المطلقة المطلوبة لن تكون الا في صيغة ( الدولة المستقلة ) ، وانّ من نتائج السعة ( حرية الحركة ) :
( بناء القوّة ) .. وبهذا تكون المعادلة الواضحة في فائدة الهجرة ، وهي :
الحق بحاجة الى قوة تحميه وتبلغه ، والقوة بحاجة الى دولة تحفظها .
وأمّا الدولة فهي ايضا تعتبر قانونا هاما في انتصار الحق ، حيث لا حق بغير قوة تحميه وتبلغه في الارض ، ولا قوة بغير دولة ذات سيادة وقيادة وارادة ( استقلال) ..
﴿ ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ...) ﴾
- ولا يكون هذا الاعداد المطلق الا تحت قيادة اسلامية مستقلة ، وسيادة مطلقة على الارض .. مع ارادة مستقلة قوية .
آيات من كتاب الله تدل على اطّراد قانون الهجرة
: وأنا هنا اسردها سردا ، واترك للقاريء الكريم أن يستنبط القانون من هذه التطبيقات القرآنية والامثلة التي جاءت في كتاب الله تعالى.....
فلنحاول ان نتدبر على ضوء ما سبق من تقرير قانون الهجرة ، وهو :
( اخراج الرسل واهل الحق مقدمة انتصار الحقّ ، واهلاك سلطان اهل الباطل ) :
سورة الاعراف(82)
[size=18][b]﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) ﴾
الاعراف (آية:88):
﴿ قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين امنوا معك من قريتنا او لتعودن في ملتنا قال اولو كنا كارهين ﴾ ...... الى قوله : ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ ..
سورة النمل :
﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) ﴾
التوبة (آية:40):
﴿ الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فانزل الله سكينته عليه وايده بجنود لم تروها وجعل كلمه الذين كفروا السفلى وكلمه الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾
في سورة الحج
( انتبه الى ثلاثية القوانين : ابتلاء - إخراج - تمكين ) :
[/size][/b]
قال الله تعالى
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39 ﴾) قانون الابتلاء .
﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) ﴾
قانون الإخراج من الارض بغير حق ، من قبل اهل الباطل .
﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) ﴾
قانون التمكين وبناء الدولة والسلطان .
وفي سورة ابراهيم
( لاحظ ثلاثية القوانين الثلاثة : فتنة ايذاء - اخراج أو محاولة الاخراج - تمكين وسكنى الارض ( دولة ) - )
﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) ﴾
في هاتين الايتين يتبين قانون ( الابتلاء والايذاء )
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) ﴾
في هذه الاية التالية لما سبقها يتبين قانون ( الهجرة والاخراج أو محاولة الاخراج )
﴿ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) ﴾
في هذه الاية التالية لما سبقها يتبين قانون ( التمكين واقامة الدولة على ارض يسكنها المؤمنون )
وفي سورة الاسراء
(لاحظ ثلاثية القوانين السابقة ) :
﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74)
إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) ﴾
قانون الفتنة .
﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76)
سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) ﴾
قانوني ( الهجرة (ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها ) ثم التمكين بدلالة ( واذا لا يلبثون خلافك الا قليلا )
محمد (آية:13):
﴿ وكاين من قريه هي اشد قوه من قريتك التي اخرجتك اهلكناهم فلا ناصر لهم ﴾ ..
ولعل اخواني يبحثون في هذا الاتجاه فيجدون غير ذلك ...
عاشوراء ، وقصة الهجرة في أيام الله ...
..
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء فقال :
( عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه ) .
وقبل النبي صلى الله عليه وسلم السبب الذي يُصام عاشوراء من أجله ، وهو انه يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وجنوده واغرقهم ..
والجمع بين الحديثين يقتضي ، أنّ يوم انجاء الله تعالى لموسى من ملاحقة فرعون وظلمه واستضعافه للمؤمنين مع موسى برسالته ( الاسلامية ) ، هو يوم من أيام الله .. التي ينسبها الله تعالى الى نفسه تعظيما لما حدث فيها من انتصار الحق بعد اغراق طاغية الباطل فرعون مع قوته كلها ..
ومن اللافت أن ينسب النبي صلى الله عليه وسلم ، شهر محرم الذي يتضمن يوم عاشوراء في عاشره ، الى الله تعالى كذلك ، فيقول عنه :
( شهر الله الذي تدعونه المحرم ) ..
فعاشوراء اذا :
يوم من ايام الله تعالى، في شهر الله المحرم ..
هو يوم لله في شهر الله .
ولعلّ اهم ما احتضنه شهر الله المحرم ، هو :
1- عاشوراء يوم نجى الله موسى ومن معه ، من فرعون واغرقه مع جنوده في هذا اليوم .
2- هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم ونجاة الصحابة من ظلم قريش وقهرها لهم .
هجرة موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ( وذكرهم بأيام الله ) ... بين سورة ابراهيم وسورة الاسراء .
يتبع ان شاء الله تعالى .. فانتظرونا .
تعصي الإله وأنت تظهر حبهلعمري ان هذا في القياس شنيع لو كان حبك صادقا لأطعته ان المحب لمن يحب مطيع
[/size]~